من هو الأستاذ الأول فى الجراحة بالقصر العينى ؟/ الذى سمى باسمه أحد شوارع القاهرة والإسكندرية
الدكتور محمد دري باشا الحكيم ( 1257ه – 1841م / 1318 ه/ 1900 م )
الطيب النطاسي البعيد الصيت فى البراعة بالأعمال الجراحية ، والأستاذ الأول فى الحراجة بالقصر العينى ، سيد الجراحين فى زمانه ، المؤرخ
الذى علم الطب والحكمة ، الطبيب المثقف المفكر الذى جمع بين الثقافة والطب على أكثر من صعيد :
ممارسة وتعليماً وتأليفاً ونشراً ، وله من
المكانة بحسن سلوكه ومكارم أخلاقه ، الدكتور
محمد عبد الرحمن أحمد دري.
مولده ونشأته : -
ولد الدكتور دري باشا
فى قرية محلة أبو على إحدى قرى طنطا فى سنة 1257ه – 1841م ، حيث كان والده من تجار محلة أبى على القنطرة من
أعمال الغربية ثم انتقل من محلة أبى على القنطرة بالغربية إلى مصر
بعد أن دخل العسكرية فى عهد محمد على باشا
، وقد تعرف إلى الدكتور كلوت بك وغيره من أعلام التعليم فى ذلك العصر ، ولما بلغ
محمد السابعة من عمره سنة 1264ه أدخله والده مدرسة المبتديان المعروفة بمدرسة
الناصرية فى عام 1848م ، ولم يقم فيها سوى
بضعة أشهر ثم ألغاها والى مصر عباس باشا الأول فى تلك السنة التى عرفت بسنة البرار
والبراماز أى ما ينفع ومالا ينفع بالتركية فانتقل إلى المدرسة التجهيزية ، وبعد بضعة
أشهر انتقل إلى مدرسة أبى زعبل ثم انتخب منها تلميذاً لمدرسة المهندسخانة ،وكانت فى
بولاق مصر ، وناظرها المرحوم على باشا مبارك ، ولكنه كان متعلقاً بدراسة الطب لا الهندسة فطلب
من أستاذه معاونته على الالتحاق بمدرسة الطب .
التحاق دري بمدرسة الطب : -
كان دُري أكثر ميلاً لتعلم الطب فصار يترقب الفرص لذلك حتى أتيحت له سنة
1269م – 1853 م فألحق بمدرسة الطب بعد صبر وعناء
، بمساعدة على باشا مبارك ، وقد حفظ محمد دري هذا الجميل لعلى باشا مبارك فأصدر
كتاباً عن تاريخه فى مطبعته ، ونجح محمد دري فى الأمتحان السنوى ومكث بها سنتين
، ثم خطر إلى سعيد باشا أن يلغى مدرسة الطب والتعليم الطبى فحضر إلى المدرسة وبصحبته
الدكتور محمد بك شافعى ناظر المدرسة الطبية وغيره واصطف أمامهم التلاميذ وقسموهم إلى
ثلاث أقسام حسب أعمارهم ، فصغار السن طردوا من المدرسة والمتوسطون ألحقوا بالشوشخانة
السعيدية ( أورطة عسكرية ) والمتقدمون فى السن ألحقهم بالمدرسة العسكرية الحربية فى
بلدة طره ، وكان الدكتور دُري من المتوسطين فى السن فألحق بالعسكرية وصرفت لهم الملابس
والمهمات العسكرية، وأقفلت مدرسة الطب، وغلب اليأس على تلاميذها السابقين، غير أن الدري
واصل دراسة الطب من الكتب التي تصل إلى يده ، وبعد حين صدرت الأوامر بالعفو عنهم وجعلهم
تمرجية (ممرضين) بالجيش، وبقي محمد دري تمرجيًا بالجيش يتنقل من أورطة إلى أورطة، ومن
آلاي إلى آلاي، حتى نال رتبة الجاويش، وعرف
عنه فى تلك الفترة أنه ممرض ممتاز ، ولديه معارف طبية واسعة فاعتقد أطباء الجيش أنها
مهارة فطرية ، ولم يدركوا أنه كان يتعلم فن الطب بنفسه ، ثم انتشر وباء الهيضة (الكوليرا) عام 1272 هـ/ 1855م فاشتغل دري في معالجة المرضى، وبدأ منذ ذلك العهد
في تأسيس آرائه العلمية في هذا المرض وتدوين مشاهداته حوله، ونشرت هذه فيما بعد في رسالة
سماها "الإسعافات الصحية في الأمراض الوبائية الطارئة على مصر .
إعادة افتتاح مدرسة الطب : -
فى عام 1273ه – 1856 م عاد الدكتور كلوت بك ـ مؤسس المدرسة الطبية المصرية
ـ إلى مصر، والتمس من واليها سعيد باشا إعادة المدرسة الطبية إلى ما كانت عليه، فأجابه
إلى ذلك، وأصدر أمره بجمع تلاميذها من آلاليات
الجيش وإعادتهم إلى المدرسة، فعاد الدري ورفاقه إليها، وواصل دراسته حتى تخرج منها ماهراً وعالماً ومدرساً فى فنونها ، وعُين بها
مساعدً ومعيدًا لعلم الجراحة بمرتب شهري قدره ثلاثة جنيهات.
محمد دُرى فى باريس : -
وفي عام 1278ه توجه
عباس باشا إلى أوروبا وشاهد تقدم فن الجراحة فى باريس فحرك ذلك غيرة سعيد باشا ، فلما
عاد أرسل فى سنة 1279ه -1862 م فريق من النابغين
فى المدرسة الطبية المصرية إلى باريس لإتقان
فن الطب ويعودوا إلى مصر في وقت قريب توفيرًا للنفقات، وكان فى هذه الإرسالية محمد
دري، وكان أصغر المبعوثين سنًا ورتبة، وبعد أقل من عام توفي سعيد باشا وخلفه إسماعيل
باشا فعرض عليه شافعي بك الحكيم ناظر مدرسة الطب استرجاع هذه الإرسالية لأن مصر في
حاجة إلى أطباء، فصدر أمر إسماعيل بإرجاعهم فعادوا جميعًا ما عدا محمد دري لصغر سنه
، وكان الخديو إسماعيل قد راجع بنفسه كشفًا بأسماء أعضاء هذه البعثة العلمية، فلفت
نظره أن سن بعضهم تقارب الخمسين، وأن ستة منهم يحملون رتبة البكوية ، واصل دري دراسته وتتلمذ على أشهر جراحي ذلك العصر،
ومنهم الدكتور أوغست نيلاتون (1807 ـ 1873)، الذي لازم عيادته الجراحية سنتين كاملتين
لفت خلالهما نظر أستاذه، الذي بشره بمستقبل مجيد وحث رفاقه على الاقتداء به .
بقي دري بباريس مشتغلاُ
بإتمام معارفه العلمية والعملية على أشهر الجراحين فى ذلك الوقت ، إلى أن نال شهادة
الطب( الدكتورية ) ، فأراد رئيس الإرسالية هناك إعادته إلى مصر، لكن دري التمس إبقاءه
مدة أخرى لإتمام العمل في بقية المستشفيات فألح عليه الرئيس في العودة إلى مصر، وبلغ
ذلك الدكتور نيلاتون فكتب إلى رئيس الإرسالية يقول : يجب الالتفات لدري المصري والعناية
بشأنه لأنه قلّ أن يوجد له نظير في الإقبال على العمل والاستفادة بما يشاهده، وإنني
منه في غاية الامتنان وأُثني عليه أحسن الثناء ،
فاقتنع رئيس الإرسالية بذلك ، وصادف أن وصل الخديو إسماعيل إلى فرنسا، فلقيه
الدكتور نيلاتون وأثنى له على محمد دري، وأيده في ذلك أطباء فرنسيون آخرون كانوا في
حمامات فيشي، فأمر الخديو بمنح دري عدة كتب وبعض الآلات الجراحية ومبلغًا من المال،
فاشترى دري بهذا المال بعض القطع التشريحية، أحضرها معه إلى مصر لدى عودته ، وبقيت
أثراً خالداً له فى مدرسة الطب المصرية .
عودة دري باشا إلى مصر وتدرجة فى المناصب المختلفة : -
في عام 1286هـ / 1870م عاد دري إلى مصر بعد أن قضى في فرنسا نحو سبع سنوات،
فمُنح رتبة صاغقول أغاسي (رائد)، وعين حكيمباشي قسم العطارين بالإسكندرية، ثم عين جراحاً
ثانيًا لقسم الجراحة بمستشفى الإسكندرية، وبقي به إلى أواخر عام ه / 1872م 1288، ثم
نُقل إلى القاهرة وعين معلمًا ثانيًا لعلم التشريح وجراح باشي اسبتالية النساء بالقصر
العيني، وبقي فيها حتى عام 1291 هـ،/ 1874م
ثم عين معلمًا أول لعلم التشريح وجراح باشي بمستشفى النساء، ورُقي إلى رتبة بكباشي (مقدم)، ثم رقي عام
1294 هـ / 1877م إلى رتبة أميرالاي ، وبقي
في مستشفى قصر العيني بوظيفة جراح باشي وأستاذ أول الجراحة والإكلينيك الجراحي إلى
عام 1299 هـ، / 1875 م وهو العام الذي مُنح
فيه رتبة المتمايز، وشارك دري مع الجيش المصرى في الحرب العثمانية الروسية (1877 ـ
1878) وعُين حكيمباشي مستشفى صوفيا، ومُنح نيشان هذه الحرب، وفي عام 1315 هـ /
1897م مُنح رتبة الميرميران الرفيعة الشأن، وظل أستاذاً أول للجراحة فى المدرسة ومستشفى
قصر العينى حتى قلب التعليم فى المدرسة باللغة الأنجليزية فأحيل إلى المعاش وتفرغ إلى
أعماله الخاصة .
أخلاقه وصفاته : -
كان الدكتور دري رحمه الله محباً لقومه ، ساهراً على مصلحتهم ، مستهلكاً فى
خدمتهم ، حتى أنه يحيى ليله مفكراً فى أحوالهم ومصيرهم ، وقد حدا به ذلك إلى صرف عنايته
وماله وراحته فى رفع منارة بلاده فى السبيل الذى يستطيعه ، فأنفق معظم ثروته فى اختيار
الكتب وجمع رسوم مشاهير المصريين وغيرهم ،
وكان ذو ولعٍ شديدٍ فى مهنته ، واشتهر بفن الجراحة ، وكانت فى منزله جمجمة صناعية تظهر
فيها الأعصاب أحسن ظهور ، وكان يقوم بتشريح
العصب الخامس وفروعه وهو من أصعب مسائل التشريح ، واشتهر بين الأطباء بدقة التشخيص وصدق الإنذار
، حتى كاد يقترب ذلك من الإلهام ، فإذا شاهد مريضاً وأنذره أو بشره كان كما قال ، وكان
متعلق الذهن بمرضاه فإذا عمل عملية مهمة وعاد إلى بيته لا يهدأ باله على مريضه حتى
يتفقده مراراً ، إما برسول خاص ، وإما أن يذهب هو بنفسه ، ولا فرق عنده فى ذلك بين
الغنى والفقير ، له نوع خاص فى مواساة الناس فى أزمنة الأوبئة الوافدة ومعالجتهم بما
سهل ورخص .
وكان رحمه الله من
أوائل المنتبهين إلى أثر المناخ فى العمليات الجراحية وهى عقيدة شبه ثابتة عند المصريين
الذين ضبطوا حياتهم بالتقويم القبطى ، فكان
يرى أن العمليات الجراحية تكون أفضل مآلا وتكون عاقبتها سليمة إذا أجريت فى شهرى بئونة وأبيب ( يونيه ويوليو ) ويليهما كيهك وطوبة ( ديسمبر ويناير ) .
أهم أعمال الدكتور دري : -
( 1 ) جمع رسوم المشاهير المصريين وغيرهم وحفرها كلها على النحاس فى باريس ، ولا غرض له من ذلك إلا إحياء ذكر الفضلاء ، كذلك اهتم برسم صور الأمراض التى لها أجسام وأشكال .
( 2 ) أنشأ مطبعة خاصة له مستوفاة جميع ما يلزم للطبع المتقن يطبع فيها مؤلفاته ومؤلفات من يريد من زملائه دون مقابل فكانت له اليد الطولى فى نشر علم الطب وإذاعة مؤلفاته ، وكان مقرها حارة السقايين بعابدين .
(3 ) ترك مجموعة تشريحية عظيمة وصوراً ملونة من المصيص لجميع الأمراض وكانت معروضة فى متحف مدرسة الطب فى قاعة خاصة مكتوب عليها مجموعة الدكتور محمد الدرى باشا ، كما كان بمدرسة قصر العيني معرض لما استخرجه من الحصوات المثانية والنواسير والأورام وغيرها ، وقد نشرت مجلة المقتطف في باب "أخبار الأيام" بعددها الصادر في 6 شعبان 1312 هـ (فبراير 1895 م) هذا الخبر:أخرج الدكتور محمد درّي بك الجراح الشهير حصاة لعابية من حلق رجل وزنها 25 غرامًا، ويقال إنها أكبر حصاة لعابية أُخرجت حتى الآن، ولم يحصل للمريض تقيح ولا التهاب، بل عاد يتكلم ويزدرد الطعام، وكان ذلك عسرًا عليه لكبر الحصاة .
( 4 ) كانت له مكتبة خاصة احتوت على 337 مجلداً ، منها 15 عنوناً عربياً ، وكلهم مخطوطات فيها ما هو بخط مؤلفها ، واشتهرت فى المكتبة العامة لجامعة الإسكندرية بمكتبة دكتور ردي باشا الخاصة .
مؤلفات الدكتور دري : -
كان دري باشا شديد الاهتمام بتدوين الملاحظات المرضية، وكان يدونها في دفتر
خاص بالمريض مسجل به بالتفصيل اسم المريض ومرضه والعلاج الذي عولج به وتاريخ سير العلة،
وقد جمع دري باشا ذلك كله في مجموعة أهداها إلى قصر العيني عندما أحيل إلى المعاش،
فحُفظت هناك، وكُتب عليها مجموعة محمد دري باشا الحكيم ، كان دري باشا يقتني
بمنزله مجموعة تشريحية جاء بها من أوروبا فضلًا عن مقتنيات أخرى، ، ومن مصنفاته : -
( 1 ) كتاب بلوغ المرام فى جراحة الأقسام ظهر منه 4 مجلدات ضخمة وطبع فى سنة 1890م ، مطول فى الجراحة ، مزين بالرسوم والأشكال .
( 2 ) كتاب التحفة الدرية فى مآثر العائلة المحمدية العلوية ، وهو يشمل على تراجم أعضاء الأسرة المالكة ورسومهم .
( 3 ) كتاب تذكار الطبيب طبع مرتين ، أخيرتهما سنة 1313ه يشتمل على التذاكر الطبية التى كان يصفها مشاهير أطباء القصر العينى ، صفحاته 436 صفحة .
( 4 ) كتاب فى الأورام الليفية
( 5 ) ترجمة حياة المغفور له على باشا مبارك ، استخرجه من الخطط التوفيقية ، وطبعه فى مطبعته سن 1311ه/ 1894م .
( 6 ) كتاب الأسعافات الصحية فى الأمراض الوبائية طبع سنة 1300ه / 1883م ، ألفه بمناسبة انتشار الأمراض الوبائية بمصر سنة 1300ه ، نسخة فى مجلد طبع بولاوق سنة 1300ه
( 7 ) كتاب عموميات على الحمرة وخلع الفخذ فى مجلد طبع بالقاهرة سنة 1889م
( 8 ) كتاب جراحة الأنسجة فى ثلاثة مجلدات طبع سنة 1892م
( 9 ) كتاب الجراحة العامة فى مجلد طبع سنة 1310ه / 1892م
( 10 ) رسالة فى الهيضة الوبائية ، وفيها وصف الهيضة وطرق معالجتها بالأدوية البسيطة .
وفاته : -
توفى فى شهر ربيع الأول عام 1318ه / اوائل شهر يوليو سنة 1900 م عن عمر يناهز سبعين عاماً ، وتكريما له سمى باسمه أحد شوارع حى العجوزة بالجيزة ( شارع الدري ) كما سمى باسمه محمد دري باشا بمنطقة لوران بالإسكندرية .
قالوا عنه : -
· قال عن الدكتور أحمد عيسى بك : - كان رحمة الله رضى الخلق حسن الطباع ميالاً إلى فعل الخير محسناً جواداً كريم السجايا رؤفاً بالفقراء كثير العطف على المساكين يواسيهم ويعالجهم من محض ماله وكان شغوفاً بالعلم ، وكان ينفق كل ما يحصل عليه من مال من صنعته يصرفه فى خدمة مهنته وأمته وبلاده حتى مات لا يملك إلا القليل مما لا يتناسب مع ما قام به من الأعمال الجليلة واتصف به من الشهرة الفائقة .
· قال فيه الشيخ على أبو يوسف الأزهرى يمدحه : -
لو نلتُ في الدهر ما أبغيهِ لم ترَني في مدح من شئت إلا ناظم الدُّرّ
أو كنتُ أدلجتُ في المسرى فليس إلى شيء يكون سوى للكوكب الدري
أو إن ألمت بي الإسقامُ في زمنٍ لم استطبْ سوى بالماهرِ
الدري
فهو الحكيم الذي لم يشكُ ذو مرضِ إلا ونادى به يا كاشف الضرِ
· وقد مدحته مجلة الهلال فى عددها الصادر فى 8 رجب 1311ه / يناير 1894 قائلة :- وما يسرنا ذكره أن حضرة الدكتور من الراغبين في خدمة العلم، والمجتهدين في نشره وتنشيطه، ويدلك على ذلك أنه ـ على كثرة شواغله في معاطاة مهنته في الطب والجراحة ـ قد أنشأ مطبعة خصوصية في منزله جاء إليها بسائر معدات المطابع لطبع ما أراد نشره، لا يلتمس على ذلك أجرًا ولا أجرة .
· قال عنه الدكتور محمد الجوادى : - كان الدكتور محمد درى الحكيم قد عاش حياته واعياً لمعنى الخلود ، ولمعنى القيمة ، ولمعنى العطاء ، كان بالغ المهارة فى العمليات الجراحية الدقيقة والخطيرة ، وكان بالغ الدقة فى العلاج ، واشتهر بدقة التشخيص ، وصدق التنبؤ بمآل الحالة ، وكان مستواه هذا يقترب من الإلهام ، وكان حفياً بمتابعة نتائج عمله ، مشغولاً بمرضاه وتطور حالتهم الصحية .
مصدر هذا المقال : -
تعليقات
إرسال تعليق